الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
فقام خطباء أهل البصرة وقالوا: قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحدًا أقوى عليها منك فهلم فلنبايعك. فقال: لا حاجة لي في ذلك. فكرروا عليه فأبى عليهم ثلاثًا ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم فلما بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن القرحاء التميمي يعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة ويدعوهم إلى البيعة له فلما وصلا إلى الكوفة وكان خليفته عليها عمرو بن حريث جمع الناس وقام الرسولان فخطبا أهل الكوفة وذكرا لهم ذلك فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني وهو ابن رويم فقال: الحمد لله الذي اراحنا من ابن سمية! أنحن نبايعه لا ولا كرامة! وحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعده فشرفت تلك الفعلة يزيد بن رويم في الكوفة ورفعته. ورجع الرسولان إلى البصرة فأعلماه الحال فقال أهل البصرة: أيخلعه أهل الكوفة ونوليه نحن! فضعف سلطانه عندهم فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ويرى الرأي فيرد عليه ويأمر بحبس المخطىء فيحال بين أعوانه وبينه. ثم جاء إلى البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلي التميمي فوقف في السوق وبيده لواءٌ وقال: أيها الناس هلموا إلي إني أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد أدعوكم إلى العائذ بالحرم يعني عبد الله بن الزبير.فاجتمع إليه ناس وجعلوا يصفقون على يديه يبايعونه. فبلغ الخبر ابن زياد فجمع الناس فخطبهم وذكر لهم أمره معهم وأنه دعاهم إلى من يرتضونه فبايعه منهم أهل البصرة وأنهم أبوا غيره وقال: إني بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار وقلتم ما قلتم وإني آمر بالأمر فلا ينفذ ويرد علي رأيي ويحال بين أعواني وبين طلبتي ثم إن هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم ليفرق جماعتكم ويضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف. فقال الأحنف والناس: نحن نأتيك بسلمة فأتوه بسلمة فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع فلما رأوا ذلك قعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه. فدعا عبيد الله رؤساء محاربة السلطان وأرادهم ليقاتلوا معه قالوا: إن أمرنا قوادنا فعلنا. فقال له إخوته: ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت رجعت إليه فأمدك ولعل الحرب تكون عليك وقد اتخذنا بين هؤلاء القوم أموالًا فإن ظفروا بنا أهلكونا وأهلكوها فلم تبق لك بقية. فلما رأى ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صهباء الجهضمي الأزدي فأحضره وقال له: يا حارث إن أبي أوصاني أني احتجت إلى العرب يومًا أن أختاركم. فقال الحارث: إن قومي قد اختبروا أباك فلم يجدوا عنده مكانًا ولا عندك مكافأة ولا أردك إذا أخترتنا وما أدري كيف أماني لك إن أخرجتك نهارًا أخاف أن تقتل وأقتل ولكني أقيم معك إلى الليل ثم أردفك خلفي لئلا تعرف. فقال عبيد الله.نعم ما رأيت. فأقام عنده فلما كان الليل حمله خلفه. وكان في بيت المال تسعة عشر ألف ألف ففرق ابن زياد بعضها في مواليه وادخر الباقي فبقي لآل زياد. وسار الحارث بعبيد الله بن زياد فكان يمر به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحرورية وعبيد الله يسأله: أين نحن والحارث يخبره فلما كانوا في بني سليم قال: أين نحن قال: في بني سليم. قال: سلمنا إن شاء الله. فلما أتى بني ناجية قال: أين نحن قال: في بني ناجية. قال: نجونا إن شاء الله. فقال بنو ناجية: من أنت قال: الحارث بن قيس كان يعرف رجلٌ منهم عبيد الله فقال: ابن مرجانة! وأرسل سهمًا فوقع في عمامته. ومضى به الحارث فأنزله في دار نفسه في الجهاضم فقال له ابن زياد: يا حارث إنك أحسنت فاصنع ما أشير به عليك قد علمت منزلة مسعود بن عمرو في قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه له فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره فهي في وسط الأزد فإنك إن لم تفعل فرق عليك أمر قومك. فأخذه الحارث فدخلا على مسعود ولم يشعر وهو جالس يصلح خفًا له فلما رآهما عرفهما فقال للحارث: أعوذ بالله من شرٍ طرقتني به! قال: ما طرقتك إلا بخير قد علمت أن قومك أنجوا زيادًا ووفوا له فصارت مكرمة يفتخرون بها على العرب وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضى عن مشورة وبيعة أخرى قبل هذه يعني بيعة الجماعة. قال مسعود: أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله ولم نجد من أبيه مكافأة ولا شكرًا فيما صنعنا معه قال الحارث: إنه لا يعاديك أحد على الوفاء على بيعتك حتى تبلغه مأمنه أفتخرجه من بيتك بعد وأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه فطافوا في الأزد فقالوا: إن ابن زياد فقد وإنا لا نأمن أن تلحظوا به. فأصبحوا في السلاح. وفقد الناس ابن زياد فقالوا: ما هو إلا في الأزد. وقيل: إن الحارث لم يكلم مسعودًا بل أمر عبيد الله فحمل معه مائة ألف وأتى بها أم بسطام امرأة مسعود وهي بنت عمرو بن الحارث ومعه عبيد الله فاستأذن عليها فأذنت له فقال لها: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب وتتعجلين به الغنى. وأخبرها الخبر وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت وتلبسه ثوبًا من ثياب مسعود ففعلت ولما جاء مسعود أخبرته أخذ برأسها يضربها فخرج عبيد الله والحارث عليه وقال له: قد أجارتني وهذا ثوبك علي وطعامك في بطني.وشهد الحارث وتلطفوا به حتى رضي فلم يزل ابن زياد في بيته حتىقتل مسعود فسار إلى الشام. ولما فقد ابن زياد بقي أهل البصرة في غير أمير فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السلمي وبالنعمان بن سفيان الراسبي الحرمي ليختارا من يرضيان لهم وكا رأي قيس في بني أمية ورأي النعمان في بني هاشم فقال النعمان: ما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر من فلان لرجل من بني أمية وقيل: بل ذكر له عبد الله بن الأسود الزهري وكان هوى قيس فيه وإنما قال النعمان ذلك خديعةً ومكرًا بقيس فقال قيس: قد قلدتك أمري ورضيت من رضيت ثم خرجا إلى الناس فقال قيس: قد رضيت من رضي النعمان.
لما اتفق قيس والنعمان ورضي قيس بمن يؤمره النعمان أشهد عليه النعمان بذلك وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضى ثم أتى عبد الله بن الأسود وأخذ بيده واشترط عليه حتى ظن الناس أنه بايعه ثم تركه وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب بببة واشترط عليه مثل ذلك ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحق أهل بيته وقرابته وقال: أيها الناس ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم وأمه هند بنت أبي سفيان قد كان الأمر فيهم فهو ابن أختكم ثم أخذ بيده وقال: رضيت لكم به فنادوه: قد رضينا وبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتى نزلها وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين. وقال الفرزدق في بيعته: وبايعت أقوامًا وفيت بعهدهم وببة قد بايعته غير نادم ذكر هرب ابن زياد إلى الشام ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذي كان بينهم وبين الجماعة وأنفق ابن زياد مالًا كثيرًا فيهم حتى تم الحلف وكتبوا بذلك بينهم كتابين فكان أحدهما عند مسعود بن عمرو. فلما سمع الأحنف أن الأزد طلبت إلى ربيعة ذلك قال: لا يزالون لهم أتباعًا إذا أتوهم. فلما تحالفوا اتفقوا على أن يردوا ابن زياد إلى دار الإمارة فساروا ورئيسهم مسعود بن عمرو وقالوا لابن زياد: سر معنا فلم يفعل وأرسل معه مواليه على الخيل وقال لهم: لا تتحدثوا بخير ولا بشر إلا أتيتموني به فجعل مسعود لا يأتي سكة ولا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أولئك الغلمان ابن زياد بالخبر وسارت ربيعة وعليهم مالك بن مسمع فأخذوا سكة المربد وجاء مسعود فدخل المسجد فصعد المنبر وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة فقيل له: إن مسعودًا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شرٌّ فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم.فقال: أبعدهم الله لا والله لا أفسدن نفسي في إصلاحهم! وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول: لأنكحن ببه جاريةً في قبه تمشط رأس لعبه هذا قول الأزد وأما قول مضر فيقولون: إن أمه كانت ترقصه وتقول هذا. وصعد مسعود المنبر وسار مالك بن مسمع نحو دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية فحرق دورهم لما في نفسه لاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة. وجاء بنو تميم إلى الأحنف فقالوا: يا أبا بحر إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها.فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم. فقالوا: قد دخلوا الدار. فقال: لستم بأحق بالدار منهم. فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة إنما أنت امرأة تتجمر! فقال: است المرأة أحق بالمجمر فما سمع منه كلمة أسوأ منها ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد سلبت خلخالها وقد قتلوا الصباغ الذي على طريقك وقتلوا المقعد الذي على باب المسجد وقد دخل مالك بن مسمع سكة بني العدوية فحرق. فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا ففي دون هذا ما يحل قتالهم. فشهدوا عنده على ذلك. فقال الأحنف: أجاء عباد بن الحصين قالوا: لا وهو عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو بن أوس من بني عمرو بن تميم ثم قال: أجاء عباد قالوا: لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق بن ربيعة الصريمي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم قالوا: نعم فدعاه فانتزع معجرًا في رأسه فعقده في رمح ثم دفعه إليه وقال: سر فلما ولى قال: اللهم لا تخزها اليوم فإنك لم تخزها فيما مضى وصاح الناس: هاجت زيرا! وهي أم الأحنف كنوا بها عنه. فسار عبس إلى المسجد فلما سار عبس جاء عباد فقال: ما صنع الناس فقيل: سار بهم عبس. فقال: لا أسير تحت لواء عبس وعاد إلى بيته ومعه ستون فارسًا. فلما وصل عبس إلى المسجد قاتل الأزد على أبوابه ومسعود على المنبر يحضض الناس فقاتل غطفان بن أنيف التميمي وهو يقول: يال تميمٍ إنها مذكوره إن فات مسعودٌ بها مشهوره فاستمسكوا بجانب المقصوره أي لا يهرب فيفوت. وأتوا مسعودًا وهو على المنبر فاستنزلوه فقتلوه وذلك أول شوال سنة أربع وستين وانهزم أصحابه وهرب أشيم بن شقيق بن ثور فطعنه أحدهم فنجا بها فقال الفرزدق: لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد إذًا لصاحب مسعودًا وصاحبه وقد تهافتت الأعفاج والكبد ولما صعد مسعود المنبر أتي ابن زياد فقيل له ذلك فتهيأ ليجيء إلى دار الإمارة فأتوه وقالوا له: إنه قتل مسعود فركب ولحق بالشام. فأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مضر فحصروه في داره وحرقوا داره. ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم فنهبوا ما وجدوا له ففي ذلك يقول واقد بن خليفة التميمي: منهم عبيد الله يوم نسلبه جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا ومقنبه لو لم ينج ابن زيادٍ هربه وقد قيل في قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما تقدم وهو أنه لما استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو أجاره ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتى قدموا به إلى الشام فبينما هو يسير ذات ليلة قال: قد ثقل علي ركوب الإبل فوطئوا لي على ذي حافر فجعلوا له قطيفةً على حمار فركبه ثم سار وسكت طويلًا. قال مسافر بن شريح اليشكري: فقلت في نفسي: لئن كان نائمًا لأنغصن عليه نومه فدنوت منه فقلت: أنائم أنت قال: لا كنت أحدث نفسي.قلت: أفلا أحدثك بما كنت تحدث به نفسك قال: هات. قلت: كنت تقول. ليتني كنت لم أقتل حسينًا. قال: وماذا قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت. قال: وماذا قلت: تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء. قال: وماذا قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين. قال: وماذا قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت. قال: أما قتلي الحسين فإنه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلي يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها فإن بقيت فلأهلي وإن هلكت لم آس عليها وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة أراد أن يروج فوقع في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف فخيرني معاوية بين العزل والضمان فكرهت العزل فكنت إذا استعملت العربي كسر الخراج فإن أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأهون بالمطالبة منكم مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدًا. وأما قولك في السخاء فما كان لي مال فأجود به عليكم ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض فيقولون ما أسخاه. وأما قولك ليتني لم أكن قتلت من قتلت فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملًا هو أقرب إلى الله عندي من قتل من قتلت من الخوارج ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة فإنهم بايعوني طائعين ولقد حرصت على ذلك ولكن بني زياد قالوا: إن قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدًا وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره فوقعت بهم فكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم وأما إذ فاتت هاتان فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرًا. قال: فقدم الشام ولم يبرموا أمرًا فكأنما كانوا معه صبيانًا وقيل: بل قدم وقد أبرموا فنقض فلما سار من البصرة استخلف مسعودًا عليها فقال بنو تميم وقيس: لا نرضى به ولا نولي إلا رجلًا ترضاه جماعتنا. فقال مسعود: قد استخلفني ولا أدع ذلك أبدًا. وخرج حتى انتهى إلى القصر ودخله واجتمعت تميم إلى الأحنف فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد. قال: إنما هو لهم ولكم. قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا نهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوٌّ فما يمنعكم عنه! فجاءت عصابة منهم حتى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه فرماه علجٌ يقال له مسلم من أهل فارس دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج فأصاب قلبه فقتله فقال الناس: قتله الخوارج فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا فطردوهم عن البصرة. ثم قيل للأزد: إن تميمًا قتلوا مسعودًا فأرسلوا يسألون فإذا ناس من تميم تقول فاجتمعت الأد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود بن عمرو ومعهم مالك بن مسمع في ربيعة وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم وهو يتمكث لا يخف للفتنة فجاءته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا أي إنما أنت امرأة. فخرج الأحنف في بني تميم ومعهم من بالبصرة من قيس فالتقوا فقتل بينهم ققتلى كثيرة فقال لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام فإن لكم علينا بينة فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قائلًا وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم. وأتاهم الأحنف واعتذر إليهم مما قيل وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فطلبوا عشر ديات فأجابهم إلى ذلك واصطلحوا عليه. وأما عبد الله بن الحارث ببة فإنه أقام يصلي بهم حتى قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر أميرًا من قبل ابن الزبير. وقيل: بل كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس فصلى بهم حتى قدم عمر فبقي عمر أميرًا شهرًا حتى قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله ووليها الحارث وهو القباع. وقيل: اعتزل عبيد الله بن الحارث ببة أهل البصرة بعد قتل مسعود بسبب العصبية وانتشار الخوارج فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس فصلى بهم أربعين يومًا وكان عبد الله بن الحارث يقول: ما أحب أن أصلح الناس بفساد نفسي وكان يتدين. وأما أهل الكوفة فإنه لما ردوا رسول ابن زياد على ما ذكرناه قبل عزلوا خليفته عليهم وهو عمرو بن حريث واجتمع الناس وقالوا: نؤمر علينا رجلًا إلى أن يجتمع الناس على خليفة فاجتمعوا على عمر بن سعد فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ورجالهم متقلدوا السيوف فأطافوا بالمنبر فقال محمد بن الأشعث: جاء أمرٌ غير ما كنا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله فاجتمعوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي فخطب أهل الكوفة فقال: إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها في مظانها وعليكم بما يحل ويحمد واكسروا شرابكم بالماء وتواروا عني بهذه الجدران فقال ابن همام: اشرب شرابك وانعم غير محسود واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إن الأمير له في الخمر مأربةٌ فاشرب هنيئًا مريئًا غير مرصود من ذا يحرم ماء المزن خالطه في قعر خابيةٍ ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا فيها ويعجبني قول ابن مسعود ولما بايعه أهل الكوفة وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير أقره عليها وكان يلقب دحروجة الجعل وكان قصيرًا فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري على الصلاة وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج من عند ابن الزبير واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة والبصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن في إمارة عمر بن عبيد الله بن معمر.وكان طاعون الجارف بالبصرة فماتت أمه فما وجد لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها.
في هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الري وكان عليهم الفرخان الرازي فوجه إليهم عامر بن مسعود وهو أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي فلقيه أهل الري فانهزم محمد فبعث إليهم عامرٌ عتاب بن ورقاء الرياحي التميمي فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل الفرخان وانهزم المشركون وكان هذا محمد بن عمير مع علي بصفين على تميم الكوفة ثم عاش بعد ذلك فلما ولي الحجاج الكوفة فارقها وسار إلى الشام لكراهته ولاية الحجاج.
في هذه السنة بويع مروان بن الحكم بالشام. وكان السبب فيها أن ابن الزبير لما بويع له بالخلافة ولى عبيدة بن الزبير المدينة وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشام وعبد الملك بن مروان يومئذٍ ابن ثمان وعشرين سنة فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير وقال له ولبني أمية: نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة فقدم ابن زياد من العراق وبلغه ما يريد مروان أن يفعل فقال له: قد استحييت لك من ذلك أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه يعني ابن الزبير لأنه كان يكنى بابنه خبيب! فقال: ما فات شيء بعد فقام معه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول: ما فات شيء بعد فقدم دمشق والضحاك بن قيس قد بايعه أهلها على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس وهو يدعو إلى ابن الزبير سرًا. وكان زفر بن الحارث الكلائي بقنسرين يبايع لابن الزبير والنعمان بن بشير بحمص يبايع له أيضًا وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملًا لمعاوية ولابنه يزيد وهو يريد بني أمية فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي فثار ناتل بن قيس بروح فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير. وكان حسان في الأردن يدعو إلى بني أمية فقال لأهل الأردن: ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلى الحرة قالوا: نشهد أنه منافق وأن قتلى الحرة في النار. قال: فما شهادتكم على يزيد وقتلاكم بالحرة قالوا: نشهد أنه على الحق وأن قتلانا في الجنة. قال: فأنا أشهد لئن كان يزيد وشيعته على حق إنهم اليوم على حق ولئن كان ابن الزبير وشيعته على باطل إنهم اليوم عليه. فقالوا له: صدقت نحن نبايعك على أن نقاتل من خالفك وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا هذين الغلامين يعنون ابني يزيد عبد الله وخالدًا فإنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي. وكتب حسان إلى الضحاك كتابًا يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين وأمره أن يقرأ كتابه على الناس وكتب كتابًا آخر وسلمه إلى الرسول واسمه باغضة وقال له: إن قرأ كتابي على الناس وإلا فاقرأ هذا الكتاب عليهم. وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك فقدم باغضة فدفع كتاب الضحاك إليه وكتاب بني أمية إليهم فلما كانت الجمعة صعد الضحاك المنبر فقال له باغضة ليقرأ كتاب حسان على الناس. فقال له الضحاك: اجلس فقام إليه الثانية والثالثة وهو يقول له: اجلس فأخرج باغضة الكتاب وقرأه على الناس فقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: صدق حسان وكذب ابن الزبير وشتمه. وقيل: كان الوليد قد مات بعد موت معاوية بن يزيد وقام يزيد بن أبي الغمس الغساني وسفيان بن الأبرد الكلبي فصدقا حسانًا وشتما ابن الزبير وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسانًا وأثنى على ابن الزبير فأمر الضحاك بالوليد ويزيد بن أبي الغمس وسفيان فحبسوا وجال الناس ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه ومزقوا ثيابه وقام خالد بن يزيد فصعد مرقاتين من المنبر وسكن الناس ونزل الضحاك فصلى الجمعة ودخل القصر. فجاءت كلب فأخرجوا سفيان وجاءت غسان فأخرجوا يزيد وجاء خالد بن يزيد وأخوه عبد الله معهما أخوالهما من كلب فأخرجوا الوليد بن عتبة وكان أهل الشام يسمون ذلك اليوم يوم جيرون الأول. ثم خرج الضحاك إلى المسجد فجلس فيه وذكر يزيد بن معاوية فسبه فقام إليه شاب من كلب فضربه بعصا فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد لأنه ابن أختهم. ودخل الضحاك دار الإمارة ولم يخرج من الغد إلى صلاة الفجر وبعث إلى بني أمية فاعتذر إليهم وأنه لا يريد ما يكرهون وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية ويسيرون هم من دمشق فيجتمعون معه بالجابية ويبايعون لرجل من بني أمية فرضوا وكتبوا إلى حسان وسار الضحاك وبنو أمية نحو الجابية فأتاه ثور بن معن السلمي فقال: دعوتنا إلى ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخته خالد بن يزيد! قال الضحاك: فما الرأي قال: الرأي أن تظهر ما كنا نكتم وتدعو إلى ابن الزبير. فرجع الضحاك ومن معه من الناس فنزل بمرج راهط ودمشق بيده واجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية فكان حسان يصلي بهم أربعين يومًا والناس يتشاورون وكان مالك بن هبيرة السكوني يهوى خالد بن يزيد والحصين بن نمير يميل إلى مروان فقال مالك للحصين: هل نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه يحملنا على رقاب العرب غدًا يعني خالدًا. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها إن مروان أبو عشيرة وأخو عشيرة فإن بايعتموه كنتم عبيدًا لهم ولكن عليكم بابن أختكم فقال الحصين: إني رأيت في المنام قنديلًا معلقًا من السماء وأن من يلي الخلافة يتناوله فلم ينله أحد إلا مروان والله لنستخلفنه. وقام روح بن زنباع الجذامي فقال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه في الإسلام وهو كما تذكرون ولكنه ضعيف وليس بصاحب أمة محمد الضعيف وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حواري رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه ابن ذات النطاقين ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين وليس المنافق بصاحب أمة محمد وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ إلا كان ممن يشعبه وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير يعني بالكبير مروان وبالصغير خالد بن يزيد. فاجتمع رأيهم على البيعة لمروان بن الحكم ثم خالد بن يزيد ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد على أن إمرة دمشق لعمرو وإمرة حمص لخالد بن يزيد.فدعا حسان خالدًا فقال: يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظرًا لكم.فقال خالد: بل عجزت عنا. قال: والله ما عجزت عنكم ولكن الرأي لك ما رأيت. ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين وقال مروان حين بويع له: لما رأيت الأمر أمرًا نهبا يسرت غسان لهم وكلبا والسكسكيين رجالًا غلبا وطيئًا تأباه إلا ضربا والقين تمشي في الحديد نكبا ومن تنوخ مشمخرًا صعبا خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره باءموحدة.
|